إن أشد ما نخشاه أن نكون في زمن يعز فيه وجود أخ في الله يغنمه الواحد منّا، فينعم برباط الأخوة الصادقة التي بات يندر وجودها في زماننا هذا إلّا في ميادين الرباط والجهاد في سبيل الله عز وجل.
ولقد قرأت كلاماً محزناً لصاحب كل قلب مؤمن -ولكنها الحقيقة فيمن كانت محبته من أجل الدنيا- قال ابن الجوزي: «وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر، فأما الأخوة والمصافاة فذاك شيء نسخ فلا يطمع فيه» .
ثم بين سبب نسخ الأخوة والصفاء فقال : «والسبب في نسخ حكم الصفا، أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت ديناً لا دنيا، والآن فقد استولى حب الدنيا على القلوب» .
فانظر رحمك الله إلى مقولة هذا الإمام وهو في القرن السادس الهجري يصف حال خصلة الأخوة في زمانه، فكيف يكون حالها في زماننا !؟.
والأصل في كل زمان متأخر عن سابقه وقوع فضيلة الشرفية للسابق، واقتراب الفتن وأشراط الساعة والرقة في الدين، ولكن لا يخلوا الأمر من تنفيس، والخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
خشينا أن يكون حالنا ما ذكره ابن الجوزي، مع أننا نتمنى من صميم قلوبنا أن لا يكون ذلك في زماننا؛ فنحرم نعمة الأخوة الصادقة التي لم يتبقى منها اليوم غير المعرفة السطحية المقتصرة على الابتسامة والتلطف في أسلوب الكلام، ولا تتعدى ذلك غالباً إن كثرت الملاقاة.
ولعل من أسباب ضعف رباط الأخوة في الله عدم وضوح معناها وغياب تصور حقيقتها لدى كثير من الناس في زماننا، ولذا رأينا أن نسوق من أقوال وأحوال السلف حول هذا الموضوع ما تحلُّ به حبوة القارئ، ويخلب لُبّه عجباً واندهاشاً من هؤلاء الرجال الكبار؛ لنرى البون الشاسع بين ما حققوه من معاني الأخوة الصادقة فيما بينهم، وبين واقعنا الحاضر.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إذا رزقكم الله عز وجل مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها» ، وكان رضي الله عنه يذكر الرجل من إخوانه في بعض الليل؛ فيقول: يا طولها من ليلة، فإذا صلى المكتوبة غدا إليه؛ فإذا التقيا عانقه .
وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يقبل رأس أبي بكر الصديق ، ولما أتى عمر الشام استقبله أبو عبيدة بن الجراح وفاض إليه ألماً؛ فالتزمه عمر وقبل يده وجعلا يبكيان.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا خرج إلى أصحابه قال: «أنتم جلاء حزني» .
وقال ابن عباس رضي الله عنه: «أحب إخواني إلي إذا رأيته قبلني، وإذا غبت عنه عذرني» .
ورؤي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثوبٌ كان يكثر لبسه؛ فقيل له فيه فقال: «هذا كسانيه خليلي وصفيي عمر بن الخطاب، إن عمر ناصح الله فنصحه الله» .
ولقي الصحابي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم بعدما قتل الزبير فقال: «كم ترك أخي من الدّين؟ قال: ألفي ألف، قال: علي منها ألف ألف» .
ودخل رجل من أصحاب الحسن البصري عليه فوجده نائماً على سريره ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة ففتحها فجعل يأكل منها، فانتبه الحسن فرأى الرجل يأكل فقال: «رحمك الله، هذا والله فعل الأخيار» .
وقال أبو خلدة: «دخلنا على ابن سيرين أنا وعبد الله بن عون فرحب بنا وقال: ما أدري كيف أتحفكم؟ كل رجل منكم في بيته خبز ولحم، ولكن سأطعمكم شيئاً لا أراه في بيوتكم، فجاء بشهدة وكان يقطع بالسكين ويطعمنا» .
وقال محمد بن واسع: «لا خير في صحبة الأصحاب ومحادثة الإخوان إذا كانوا عبيد بطونهم، لأنهم إذا كانوا كذلك ثبّط بعضهم بعضاً عن الآخرة» .
وقال عثمان بن حكيم الأودي: «اصحب من هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا» .
وكان بلال بن سعد الأشعري يقول: «أخٌ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخٍ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً» .
وكان القارئ المحدث طلحة بن مصرف إذا لقي مالك بن مغول يقول له: «للقياك أحبُّ إليّ من العسل» .
وقال سفيان بن عيينة: «سمعت مساوراً الوراق يحلف بالله عز وجل ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيئاً من الدنيا» .
وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول لأصحابه : «يدخل أحدكم يده في كُمِّ صاحبه ويأخذ ما يريد؟ قلنا: لا، قال: لستم بإخوان كما تزعمون» .
وأخيراً: فإن ما سقناه من صور الأخوة في الله من حياة سلفنا الصالح لجدير بالتأمل، فأين نحن من واقع سلفنا الصالح رضي الله عنهم «هيا بنا نؤمن ساعة»؟ و «هيا بنا نبكِ من خشية الله فإن لم نجد بكاءً تباكينا علّ الله يرحمنا».
ونختم بهذا الحديث في فضل وثواب الأخوة في الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ عِبَاداً لَيْسُوا بِأَنْبَياءَ، يَغْبِطهُمْ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ»، قِيْلَ: مَنْ هُمْ؛ لَعَلَّنَا نُحِبَّهُمْ؟ قَالَ: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُوا بِنُورِ اللهِ مِنْ غَيْرِ أَرْحَامٍ وَلاَ انْتِسَابٍ، وُجُوْهُهُمْ نُورٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حِزِنَ النَّاس، ثُمَّ قَرَأَ { ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفُ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونْ }» .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق